فى أوائل عام ١٩٣٦م قصد الدير, وكان ذلك اليوم هو سبت العازر وإذ به يرى حركة غير عادية حول الدير, خيول وجمال وجنود, فدخل مستغرباً, وعرف أن رئيس الدير حضر ومعه عمدة الوادى, وضابط بوليس وجنود ليطردوا بعض الرهبان, فوضع حاجاته جانباً, ودخل قاعة الاستقبال بالقصر, فوجد رئيس الدير جالساً فى الصدارة وبجانبه العمده, وضابط البوليس والجنود, وبعض الأباء الرهبان.
فسجد أمام رئيس الدير, وحيا الجالسين, وقال: "يا أبانا إنى جئت لأهنئك بسلامة الوصول, وأسأل عن صحة ما سمعته حول طرد الأباء الرهبان السبعة" فقال له "ياابنى هذا أمر سيدنا, وأنا جئت لأنفذه" فأجابه: "أن سيدنا يحزنه, ويؤلمه طرد الرهبان فى ليلة أحد الشعانين المبارك, فلا يمكن أن يرضى بقطع رجاء أخوة فى المسيح, وأنت رئيسنا وأب الرهبان وراعيهم ومسئول أمام الله عن المريض والتائه والضال, وبيدك سلطان قوى مستمد من قوانين الرهبنة, وأحكامها الصارمة التى تهدى الضال. أرجوك باسم صاحب هذه الأيام المباركة أن ترجئ أمر طردهم حتى يتقدم أباء الدير بالتماس للبابا يقرر مصيرهم ومحاكمتهم داخل الدير, فلا تطردهم فى هذه الأيام المقدسة". ثار الرئيس لكبريائه, إذ كيف يتجاسر قس حديث الرهبنة وأما هذا الجمع أن يعترض أوامره, وشيوخ الدير الأقدم منه لم يفتح أحدهم فاه بكلمة. فقال له "اسمع يا ابنى لا تعارضنى فيما أفعل, حتى لا تكون خارجاً على طاعة سيدنا. كما انك رجل متوحد لا شأن لك فيما يجرى الآن".
ولكن القس مينا عاد ليقول له: "أسألك يا أبى من أجل المسيح الذى بذل نفسه عنا ان تتمهل, ولنتصرف بما يرضى أرواح آبائنا القديسين, لأن تعاليمهم تشفع فى المخالفين, والخارجين على القانون, وتعطى كل واحد جزاءه دون أن تقطع رجاءه". فثار الرئيس وأمر الجنود أن يخرجوا الرهبان بالقوة, وأر القس مينا أن يبقى بالدير, ولا يعود إلى مغارته حتى يرفع أمره للبابا, لأنه ارتكب جريمة الاعتراض على أوامره. فأجاب القس مينا قائلاً: "يا أبى لقد وهبت نفسى لخدمة هؤلاء الأباء الذين طردوا بالقوة وبلا رحمة, وسأكون لهم عبداً حتى يعودوا إلى ديرهم أمين بقوة الله".
ارتاع رئيس الدير لما يعلمه من مكانة القس مينا عند البابا, وشعر أن الحقيقة لابد وأن تظهر. فأوعز للمقدس اسحق ميخائيل وكيل الدير أن يثنى القس مينا عن عزمه, ويقنعه بأنه ما يجب أن تكون له صلة بهذه المسألة, ولا يقحم نفسه فيها. ولكن محاولة وكيل الدير ذهبت سدا.
طرد الرهبان السبعة, ولهم جميعاً ماض مجيد فى خدم الدير وخرج معهم القس مينا مواسياً ومشجعاً. وقصدوا القاهرة, ونزلوا بمصر القديمة فى دير الملاك القبلى. وكان راعيه رجل فاضل هو المتنيح القمص داود (والد القمص ميخائيل داود), فرحب بقدومهم واستضافهم ليلة بالدير كما حضر الأستاذ راغب مفتاح لزيارة القس مينا لما علم بقدومه, وكان معه القمص يوحنا شنوده راعى كنيسة المعلقة, ومرقص بك فهمى باشكاتب مديرية الجيزة, وكان باشكاتب مديرية البحيرة, وله صلة مودة بآل القس مينا. اهتموا جميعاً بأمر الرهبان, واستأجروا لهم بيتاً من دورين به عشر غرف, فسكن كل راهب فى غرفة, وجعلوا واحدة للمائدة, وأخرى لاجتماعاتهم . وتولى القس مينا أمر شراء الحصر والبطاطين وبعض الأدوات الضرورية, واستقروا فى مقرهم الجديد حتى يهيئ الله الأمر. وهنا تظهر صورة حقيقية لعمل نعمة الله فى هذا الراهب الوديع, كثير الحياء قليل الكلام, يدل مظهره على المسكنة والضعف, ولكنه شجاع يدافع عن الحق بشهامة.
استئجار الطاحونة
كان الراهب مينا أثناء وجوده مع الرهبان بمصر القديمة بعد أن يقوم بخدمتهم اليومية يصعد الجبل المبنى عند سفحه دير الملاك ميخائل, يتجول ويمضى وقتاً للعبادة. فصادفه خفير الآثار هناك يتأمل الطواحين, ويتنقل من واحدة إلى أخرى. فسأله عن خبره, فقال له: "أريد الإقامة فى هذا الجبل فى إحدى هذه الطواحين" فقال الخفير "أن المكان منطقة آثار ومحظور على أى إنسان الإقامة فيه, إلا إذا حصل على تصريح بذلك من مدير الآثار العربية, وإنه لم يسبق لإنسان أن حصل على مثلهذا التصريح" فسأله وأين إدارة الآثار هذه ومن هو مديرها؟ فعرفه عنوانها واسم مديرها فتذكر ذلك الاسم وأنه هو الذى زاره فى سنة ١٩٣٣م بالمغارة بوادى النطرون.
فتوجه إلى دار الآثار العربية, ودنى من ساعى مكتب المدير, وسأله عنه, فظنه يطلب مساعدة, فقال له: "يا عم اقعد هنا جنبى لما يخرج يمكن ربنا يحنن قلبه عليك" فجلس برهة وتجاذب معه الحديث فارتاح الساعى إليه وطمأنه أن سيساعده فى مقابلة المدير عند خروجه من مكتبه, ولكن القس مينا أقنعه بأن يدخل له, ويخبره بأن العابد الذى زاره مع الباحث الأمريكى بالمغارة بوادى النطرون يرغب فى مقابلته. ذهب الساعى وأخبر المدير بذلك, فقال لفوره وخرج لمقابلة القس مينا, وعانقه وأخذ بيده ليدخله مكتبه. وقص على إخوانه الذين كانوا فى مكتبه حكايته العجيبة, وطلب منه أن ينزل داره ضيفاً كريماً, فشكره, وقال له: "لى عندك أمر أرجو أن تساعدنى فيه", وعرض عليه الأمر. وما أن أتم كلامه حتى طلب سكرتيره, وأمره أن يحرر عقد إيجار الطاحونة التى حددها القس مينا, ودفع من جيبه الإيجار لمدة طويله, ونبه مفتش آثار المنطقة أن يزوره فى الجبل ويعطى أمراً لخفير الآثار أن يرعاه, ويقضى له كل احتياجاته. فشكره القس مينا على حسن صنيعه, وانصرف مسبحاً الله.
اقرأ ايضاً
القمص مينا والبابا يؤانس
حياة البابا كيرلس السادس فى الطاحونة